في قلب الحصار، وبين ركام المنازل وصوت الطائرات، يخوض أكثر من مليوني فلسطيني في قطاع غزة معركة يومية من أجل البقاء، لا ضد جيوش مدججة بالسلاح فحسب، بل ضد سلاح خفيّ وأكثر فتكًا: الجوع.

منذ سنوات، تنتهج إسرائيل سياسة محكمة تهدف إلى خنق الحياة الاقتصادية والاجتماعية في غزة، غير أن ما يحدث منذ أكتوبر 2023 وحتى اليوم تجاوز كل الخطوط الحمراء. سياسة التجويع الممنهجة تحولت إلى أداة مركزية في إدارة الحرب، تُستخدم لتركيع شعب بأكمله تحت ضغط الحصار والجوع، في انتهاك صارخ لكل المواثيق الدولية التي تجرم استخدام الغذاء كسلاح حرب.

ليس مجرد حصار.. بل تجويع مُخطط

الحصار المفروض على غزة منذ عام 2007 لم يكن مجرد إغلاق للمعابر ومنع للسلع. بل كشفت وثائق وتسريبات وتقارير دولية، منها ما نشرته صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية، أن هناك سياسات ممنهجة لحساب السعرات الحرارية اللازمة لبقاء السكان على قيد الحياة فقط – دون أن ينعموا بحياة كريمة.

اليوم، ومع الحملة العسكرية المتواصلة، باتت المجاعة واقعًا لا يمكن إنكاره. تقارير الأمم المتحدة تحذر من أن أكثر من 500 ألف شخص – ربع سكان القطاع – يعانون من انعدام الأمن الغذائي الحاد، في حين لا تصل المساعدات الإنسانية إلا لنسبة ضئيلة بسبب الإغلاق الشامل والمعوقات الإسرائيلية.

أمهات بلا حليب، أطفال بلا غذاء

في مخيمات النزوح، لا صوت يعلو فوق صوت البكاء. أطفال فقدوا وزنهم، ووجوه غابت عنها الابتسامة، وأمهات يكتفين بالنظر إلى صغارهن بلا حول ولا قوة. في غزة اليوم، لا يوجد حليب أطفال، ولا غذاء طبي، ولا حتى مياه صالحة للشرب في كثير من المناطق. أُجبر الناس على طحن الحبوب والأعلاف، وأكل أوراق الشجر في بعض المناطق المنكوبة.

مشاهد الأطفال الذين يموتون من الجوع ليست صورًا من مجاعة إفريقيا في القرن الماضي، بل واقع يومي في القرن الحادي والعشرين، تحت أعين العالم، ووسط صمت دولي مريب.

القانون الدولي.. الغائب الأكبر

اتفاقيات جنيف تحظر بشكل قاطع استخدام التجويع كوسيلة من وسائل الحرب. بل وتعتبره جريمة حرب تستوجب المحاكمة. لكن، هل رأينا تحركًا حقيقيًا من المجتمع الدولي؟ هل عُقدت محاكم أو رُفعت قضايا جدية لمحاكمة المسؤولين عن تجويع شعب بأكمله؟

في مقابل آلاف الوثائق والتقارير الحقوقية، يقف الصمت الدولي حاجزًا سميكًا يمنع المساءلة، ويمنح الضوء الأخضر لاستمرار هذه السياسة اللا إنسانية، تحت ذرائع أمنية وادعاءات لا تصمد أمام القانون أو الأخلاق.

رسالة من تحت الركام: الجوع لن يكسر الإرادة

ورغم كل ذلك، لم تنكسر غزة. لم يستسلم شعبها. لا الجوع، ولا العطش، ولا الموت تحت الأنقاض، استطاع أن يطمس ملامح الصمود المتجذر في هذه الأرض. في كل مخيم، في كل بيت مهدّم، هناك من يرفع صوته بالحق، وهناك من يقتسم كسرة الخبز القليلة بروحٍ من التضامن والكرامة.

إن ما يجري في غزة اليوم هو وصمة في جبين الإنسانية، ولن تُغفر للأمم المتحضرة التي اختارت الصمت، أو المساواة بين الضحية والجلاد.

إن تجويع غزة ليس تفصيلًا في سياق حرب، بل هو استراتيجية ممنهجة لتدمير الإنسان قبل البنيان. وهو جريمة لا تسقط بالتقادم، وستبقى شاهدة على مرحلة من أحلك فصول التاريخ الحديث.

إن رفع الصوت، والكتابة، والنشر، والتحرك، هو أضعف الإيمان. ولعلّ الكلمات، حين تعجز الجيوش، تفتح طريقًا نحو ضمير عالمي ما زال غائبًا، لكنه ليس ميتًا.

أضف تعليق

I'm Emily

Welcome to Nook, my cozy corner of the internet dedicated to all things homemade and delightful. Here, I invite you to join me on a journey of creativity, craftsmanship, and all things handmade with a touch of love. Let's get crafty!

Let's connect